أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

أفول النموذج:

هل تؤدي سياسات "أردوغان" إلى انهيار الاقتصاد التركي؟

18 ديسمبر، 2016


مع الصعوبات الجمة التي يُعاني منها الاقتصاد التركي، خاصةً إثر فقدان العملة الوطنية (الليرة) لقيمتها أمام الدولار وزيادة التضخم، ثار تساؤل مفاده: هل يتجه الاقتصاد في هذا البلد إلى الأفول والانهيار، خاصة في ظل سياقات إقليمية غير مستقرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي؟.

أهمية هذا التساؤل تأتي انطلاقًا من اعتبارين أساسيين؛ الأول، أن كثيرًا من الدول العربية كانت تنظر إلى الاقتصاد التركي باعتباره نموذجًا ناجحًا جديرًا بالاقتداء به. أما الاعتبار الثاني، فيتعلق باحتدام الجدل التركي حول أسباب الأزمة الاقتصادية، وكيفية التعامل مع تداعياتها.

فهنالك من يراهن على السياسات الاقتصادية الشعبوية التي يحاول الرئيس رجب طيب أردوغان فرضها، بينما يدعو آخرون إلى إصلاحات اقتصادية شاملة تُنقذ الاقتصاد التركي من النفق الذي دخل فيه، لا سيما وأن استمرار تلك الأزمة سيُهدد مستقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي تعتمد شرعيته -بصورة رئيسية- على الإنجازات الاقتصادية التي حققها خلال سنوات حكمه.

اقتصاد تركيا بين الصعود والتراجع:

قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002 كانت تركيا تعيش أسوأ أزمة اقتصادية، إذ كان اقتصادها يعتمد على وصفات صندوق النقد الدولي. ولم تنجح مساعي وزيرها الشهير والخبير الاقتصادي كمال درويش أوغلو في إنقاذ اقتصاد البلاد بعد أن نخر فيه الفساد، وارتفعت معدلات التضخم والبطالة، وتراكمت الديون الخارجية والداخلية، وانهار سعر العملة التركية إلى درجة أن هذه العملة فقدت نصف قيمتها خلال أسبوع بعد الحادثة الشهيرة التي وُصفت بالأربعاء الأسود في 21 فبراير عام 2001 إثر تفجر الخلاف بين رئيس الجمهورية آنذاك أحمد نجدت سيزر ورئيس الحكومة حينها بولند أجاويد، وانسحاب الأخير من اجتماع خُصص لبحث الوضع الاقتصادي، حيث فُسِّر هذا الانسحاب بأنه إعلان من الحكومة بفشلها في معالجة الأزمة الاقتصادية.

تولَّى حزب العدالة والتنمية الحكم في ظل هذه الظروف الصعبة، إلا أنه رغم ذلك نجح في إطلاق مسيرة اقتصادية غيرت وجه تركيا. ولعل سر هذا النجاح هو البرنامج الاقتصادي الذي وضعه الحزب؛ حيث اعتمد على مجموعة خطوات تضافرت مع بعضها، ونجحت في تحقيق ما عُرف بـ"المعجزة الاقتصادية التركية". إذ اتجهت حكومة العدالة والتنمية إلى ضرب مواقع الفساد في مفاصل الدولة، ووضعت خطةً لتطوير أهم القطاعات الاقتصادية من خلال إطلاق الصناعات التحويلية، وتعزيز القدرة التنافسية وسياسة الاستيراد والتصدير، والعمل على توظيف الشباب، وتعزيز القطاع البنكي والمصرفي، والأهم أن الحزب عمل على فتح المجال واسعًا أمام الاستثمارات الخارجية.

من خلال تلك الخطوات نجح الحزب ليس في التخلص من الأزمة الاقتصادية فقط، وإنما في تحقيق صعود غير مسبوق حتى عام 2006، وهو صعود أسَّس للمعجزة الاقتصادية التي استمرت حتى نهاية عام 2011 حيث نجح في تحقيق نسب نمو وصلت إلى 8 بالمئة في عام 2006، وتحسين قيمة العملة التركية، ودَخْل المواطن، ورفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 800 مليار دولار في عام 2013 بعد أن كان 230 مليارًا فقط عام 2001، بحسب تقرير لمجلة "فورين بوليسي" في إبريل 2015.

لكن أوضاع الاقتصاد التركي أخذت في التراجع منذ عام 2012، خاصةً بعد قمع انتفاضة غزي بارك في إسطنبول عام 2013 بالقوة، وتجدد القتال مع حزب العمال الكردستاني، وصولا إلى الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016. وقد بدت هذه الأحداث، وكأنها متسلسلة زمنيًّا لتدخل تركيا في أزمات اقتصادية ومالية تتفاقم يومًا بعد آخر رغم محاولة أردوغان إبقاء الأمور تحت السيطرة.

بدأت مظاهر الأزمة الاقتصادية تطفو إلى السطح مع التقارير الرسمية التي بدأت تتحدث عن أن نسبة البطالة وصلت إلى 12 بالمئة، فيما تُقدرها تقارير غير رسمية بنحو ثلاثين بالمئة، بحسب تقرير لصحيفة "الزمان" التركية في إبريل 2016، فضلا عن فقدان الليرة التركية نحو عشرين بالمئة من قيمتها خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر 2016، وبدء هروب الاستثمارات الخارجية، وتراجع السياحة بدرجة كبيرة، إلى درجة أن أربعين بالمئة من هذا القطاع تعرض للإفلاس، وما تبقى منه غير قادر على الاستمرار في ظل المؤشرات الحالية.

الأهم من ذلك، فقدان المواطن التركي للقدرة الشرائية، وهو ما يضع كل إنجازات حزب العدالة والتنمية الاقتصادية أمام امتحان هو الأصعب، خاصةً وأن هذه الإنجازات صبت طوال الفترة الماضية في صناديق الاقتراع لصالح الحزب، ووصوله إلى الرئاسات الثلاث (البرلمان – الحكومة – الجمهورية).

السياسة تُفسد الاقتصاد

تتداخل جملة من العوامل الداخلية والخارجية لتؤثر على الاقتصاد التركي الذي بات كل يوم يستقبل إشارة جديدة تدق ناقوس الخطر، فبسبب تدهور العملة التركية خسر المواطنون الأتراك نصف مدخراتهم، ولم يجد أردوغان سوى الدعوة إلى تحويل أموالهم من العملات الأجنبية إلى العملة الوطنية، وهو إجراء وجد كثيرون أنه لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة طالما أن التصدي للأزمات الاقتصادية لا يقوم على مثل هذه الدعوات الشعبوية، وإنما بسياسات تتوافق مع قواعد الاقتصاد الدولي والعوامل المؤثرة فيه.

ويُرجع البعض الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا مؤخرًا إلى جملة من الأسباب الرئيسية، لعل أهمها:

أولا- تراجع حجم الاستثمار الداخلي والخارجي: حيث إن السبب الأساسي للطفرة الاقتصادية التركية كان الاستثمار، إذ شكل هذا الاستثمار بشقيه الداخلي والخارجي نحو 75 بالمئة من حركة الاقتصاد التركي، وقد تم توظيف معظم هذه الاستثمارات في المشاريع العقارية والعمرانية والخدمية الضخمة، ومع أن هذا الاستثمار حقق قفزات نوعية في هذه المجالات، إلا أنه بات يعاني من صعوبات كثيرة تهدد وجوده. فهناك عشرات المشاريع التي توقفت أو جُمِّدت بسبب غياب التمويل، كما بدأت الكثير من الشركات بسحب استثماراتها بسبب التطورات الأمنية التي تشهدها البلاد، حيث التفجيرات وتجدد الحرب مع حزب العمال الكردستاني وصولا إلى الانقلاب العسكري الفاشل والتداعيات الأمنية المستمرة للأزمة السورية. إلى جانب تدخل السلطة السياسية في السياسة النقدية والمالية للدولة، وقد وصل هذا التدخل إلى صدام مباشر بين الرئيس رجب طيب أردوغان والبنك المركزي الذي أراد رفع نسب الفوائد، فيما منع أردوغان ذلك، وهو ما خلق مزيدًا من التوتر في العلاقة بينهما.

ثانيًا- تداعيات الصدام والتوتر مع الخارج: لم تخسر تركيا السوقَ السوريةَ بسبب تدخلها المباشر في الأزمة السورية فحسب، بل إنها خسرت أهم جسر بري لمنتجاتها إلى أسواق دول الخليج العربي ومصر والأردن، كما أنها بصدامها مع مصر في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي خسرت قدرات تسويق منتجاتها إلى الأسواق الإفريقية. وقد جاء الصدام مع روسيا قبل المصالحة معها لتخسر الكثير من تجارتها وسياحتها، ناهيك عن التوتر مع الاتحاد الأوروبي الذي دفع البرلمان الأوروبي إلى تجميد مفاوضات عضويتها، ما أثر سلبًا على تجارة تركيا مع دول الاتحاد الأوروبي. وبسبب كل ما سبق باتت قطاعات السياحة والتجارة تعاني من الركود إن لم تكن الإفلاس.

ثالثًا- تعرُّض الاقتصاد التركي لهزات مالية: إن الاقتصاد التركي من الاقتصادات الناشئة، ومثل هذه الاقتصادات سرعان ما تتعرض لهزات مالية كبيرة بسبب أسعار الدولار وأسعار موارد الطاقة التي تُشكل عصب الاقتصاد العالمي، فمن شأن ارتفاع سعر الدولار -كما هو حاصل حاليًّا- انكشاف مَوَاطن الخلل في الاقتصاد التركي، وقد تجلى هذا الأمر بشكل كبير في تراجع التصنيف الائتماني للاقتصاد التركي من قبل الوكالات الدولية، ورفع كلفة الديون الخارجية، وفقدان جاذبية الاستثمار الخارجي على خلفية تدهور قيمة العملة التركية. ومع التوجه الأمريكي لرفع أسعار الفائدة بحسب برنامج الرئيس المنتخب "دونالد ترامب" الانتخابي فإن من شأن ذلك مضاعفة ديون تركيا الخارجية المقدرة بنحو أربعمائة مليار دولار، وصعوبة الإيفاء بهذا الدين.

مخاوف التدهور وسبل التعافي:

"مَنْ يُنقذ الاقتصاد التركي؟".. تحت هذا العنوان يُشير تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" في إبريل 2015 إلى أن القيادة التركية لا تُولي اهتمامًا لإصلاحات اقتصادية جادة، على الرغم من أن حكومة حزب العدالة والتنمية استفادت من النمو الاقتصادي في الانتخابات البرلمانية المتعاقبة منذ وصوله إلى الحكم.

فيما ذهبت صحيفة "ليزيكو" الفرنسية في أغسطس 2016 إلى أبعد من ذلك، عندما قالت إنه بعد عمليات التطهير في الجيش والمعارضة من قبل الرئيس أردوغان فإن الاقتصاد التركي قد ينهار تمامًا، وعللت الصحيفة بأن التطبيق التدريجي للنظام الرئاسي والحكم "الاستبدادي" يُهدد الاقتصاد التركي، إذ إن تجارة تركيا مع الاتحاد الأوروبي -الذي هو أكبر شريك تجاري لها- قد تنهار. ومن الجدير بالذكر أن حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي يصل إلى 45 بالمئة من حجم التجارة الخارجية لتركيا.

الخلاصة التي تنتهي إليها الصحيفة هي أن الاقتصاد في تركيا بات تحت رحمة السياسة. والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه اليوم هو: كيف ستتعامل حكومة حزب العدالة والتنمية مع الانهيار الجاري؟.

ويوحي المشهد التركي حاليًّا بأن ثمة صراعًا بين مدرستين أو تيارين في كيفية التصدي للأزمة الاقتصادية، لا سيما مع تدهور قيمة العملة التركية، هما:

التيار الأول: شعبوي يقوده الرئيس التركي أردوغان شخصيًّا، ويدعو إلى القيام بإجراءات وطنية من باب دعوة الأهالي وأصحاب المؤسسات الاقتصادية والتجارية إلى تحويل معاملاتهم من الدولار إلى الليرة التركية، وتحويل مدخراتهم من العملات الصعبة والذهب إلى العملة المحلية، فضلا عن محاولات اعتماد الليرة التركية في المعاملات التجارية مع الخارج وتحديدًا مع روسيا وإيران، الموردين الأساسيين للنفط والغاز إلى تركيا. 

التيار الثاني: يضم الفريق الاقتصادي الذي وضع أسسه وزير الاقتصاد السابق محمد علي باباجان، ويدعمه بشكل أساسي البنك المركزي والمؤسسات الاقتصادية التقليدية، حيث يرى هذا الفريق أن الاقتصاد التركي بات بحاجة ماسة إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية جذرية تنسجم مع مقتضيات الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية، وليس إلى شعارات شعبوية تخالف هذه القواعد. واللافت أنه كلما حاول هذا الفريق طرح برنامج للإصلاح فإنه يقابل بالهجوم من أردوغان تحت عنوان أن هؤلاء ينفذون التبعية للغرب ومؤسساته الاقتصادية من أجل إخضاع تركيا، إلى درجة أن أردوغان بات يتحدث عن انقلاب اقتصادي ضده بعد فشل الانقلاب العسكري.

في ظل الجدل الجاري بين التيارين، تتعاظم المخاوف من تدهور اقتصادي في ظل زيادة التضخم، وتباطؤ النمو، وانهيار سعر العملة، وارتفاع النفقات، وزيادة البطالة، وزيادة الدين العام، وتراجع التنافسية، وهروب الاستثمارات، وغيرها من المؤشرات القاتمة التي باتت تخيم بظلالها على الاقتصاد التركي وتثير المخاوف من انهياره. 

خلاصة القول، يُشكل الواقع الاقتصادي الصعب الذي تمر به تركيا الامتحان الأصعب لحكم حزب العدالة والتنمية بعد أن نجح بفضل تجربته الاقتصادية في جمع فقراء تركيا وأغنيائها خلفه طوال المرحلة الماضية، بعد أن قوَّضت سياسة أردوغان الاقتصاد ووضعته على حافة الانهيار.